بعد ساعات معدودات من دخول الرئيس الأمريكيّ الجديد جو بايدن إلى البيت الأبيض، كان مستشار الأمن القوميّ الأمريكيّ الجديد "جيك سوليفان"، عَرّاب الاتّفاق النوويّ الأمريكيّ الإيرانيّ عام 2015، يعلن أنّ فريق الرئيس قد ناقش مع أوربّا ملفَّ إيران.
وبعده بقليل كانت "جين بساكي"، المتحدّثة باسم البيت الأبيض، وفي أوّل إحاطة صحفيّة لها تتطرّق إلى المَلَفّ النوويّ الإيرانيّ، مشدِّدةً على أنّ الولايات المُتّحدة تسعى إلى تعزيز القيود النوويّة الخاصّة بإيران، وأنّ هذه المسألة سوف تكون جزءًا من المشاورات المبكّرة للرئيس مع نظرائه الأجانب وحلفائه، ومضيفةً أنّ الرئيس بايدن ينوي التشاور بسرعة مع الحلفاء بشأن المفاوضات مع إيران.
المشهد السابق يجعل المرء يتساءل: "هل العالم أمام فصل سيزيفيّ جديد بين الغرب عامّةً وأمريكا خاصّة وبين إيران، واستدعاء الأسطورة اليونانيّة القديمة هنا مَرَدُّه أنّ أمريكا - بايدن، ربّما لم تتعلّمْ من إخفاقات أمريكا – ترامب، ولا قرأت بعين فاحصة السنوات الخمسَ الماضية وما جرت به المقاديرُ. وعليه، فإنّها تقدم من جديد على رفع الحجر من أسفل الجبل، والمُتَوَقَّع أن يسقط من فوقه، مرّةً أخرى، خلال سنوات إدارة بايدن الأولى والتي يُتَوَقَّع أن تكون الأخيرة.
أسئلة عِدّة تقابل الباحث في الشأن الأمريكيّ الإيرانيّ، وربّما في مقدّمتها: "ما السرّ وراء التكالب الأمريكيّ الجديد على الملفّ الإيرانيّ والإسراع إلى إعادة الحياة إلى اتّفاق سَيّئ السُّمعة مع طهران، من غير تطلُّع إلى الوراء ومراجعة تجربة أوباما مع الملالي، وهل في الأمر مكايدة سياسيّة للجمهوريّين عامّةً ولدونالد ترامب خاصّةً، حتّى ولو كَلَّفَ الأمرُ الأمريكيّين الكثيرَ من أمنهم وأمانهم، وكَبَّدَ منطقة الخليج والشرق الأوسط أكلافًا باهظة صباحَ مساءَ كلّ يومٍ؟
بالعودة إلى سنوات أوباما، الرجل مُنبَتّ الصلة بأحوال السياسة الخارجيّة الأمريكيّة، وقبل أن يصل إلى البيت الأبيض عن طرق العبارات المعسولة والكلمات الطّنّانة الرنّانة، نجد أنّ فلسفته كانت ترى أنّه من الممكن أن تغير الشعوبُ والأنظمة مساراتها البعيدة عن مآلات الديمقراطيّة، وذلك عبر طرق أخرى غير أَسِنّة الرماح وسنابك الخيل العصرانيّة التي استخدمها سلفُه جورج بوش الأب في حروب أفغانستان والعراق، والتي كانت ولا تزال وبالاً على الأمريكيّين، وأضحت مستنقعات لا يعرفون كيف يغادرونها.
في هذا الإطار، آمَنَ أوباما بأنّ ايران إنْ أُعطِيَتْ الفرصة فسوف تسير في مسار مختلف، تعدّل من سلوكها وتبدّل من نهجها، وأن تعود إلى جادَّة الصواب إقليميًّا ودوليًّا ... ما الذي فعلته إيران؟
يبدو هذا هو السؤال الذي ينبغي لغالبيّة إدارة بايدن التوقّفُ أمامه مَلِيًّا والتفكير فيه جليًّا، لا سيّما وأنّ الأمس لا يمكن مقارنته باليوم، وبخاصّة بعد المنافع والمزايا التي حَقّقتْها إيران طوالَ السنوات الخمس المنقضية.
حلم أوباما المخمليّ تجاه تغيير إيران من داخلها ومن غير ثورات أو غزوات ثَبَتَ زيفُه، وجاء حسابُ الحصاد منافيًا ومجافيًا بالكلّيّة لحساب البَيْدر، وعلى الإدارة الأمريكيّة الجديدة أن تراجع أوراقها، وساعتَها ستجد إيران السادرةُ في غيّها من خلال أسلحتها التقليديّة، ومن غير الحاجة إلى أسلحة نوويّة، قد عاثت فسادًا في المنطقة والجوار، من عند اليمن الذي دَمّرته، مرورًا بمهاجمة الأمريكيّين أنفسهم في العراق، وصولاً إلى دورها التخريبيّ في سوريا، ومن ثمّ التمويل المستمرّ والمستقرّ لحزب الله في لبنان، عطفًا على تهديد الملاحة من وقت إلى آخر في مياه الخليج العربيّ.
حين أفرَجَ باراك أوباما عن نحو مائة وخمسين مليار دولار أمريكيّ من الأرصدة الإيرانيّة المُجَمَّدة في البنوك الأمريكيّة، ربّما كان في تقديره أنّ الملالي سوف يُسَخِّرونها لخدمة الشعب الإيرانيّ، والذي بدأ الجوعُ يعرف طريقَه إليه للمَرّة الأولى منذ أكثرَ من ثلاثة آلاف عامٍ من تاريخ الإمبراطوريّة الشاهنشاهيّة.
لكن من الواضح أنّ إيران استخدمتْ المليارات في طريق مختلف تمامًا، طريقٍ يَتَّسق ورؤيتَها الدوجمائيّة في تصدير الثورة الإيرانيّة عبر وكلائها للحروب في المنطقة، فيما الرصيد الأكبر، فقد جَنَّبتْه للإنفاق على برنامجها الصاروخيّ الباليستيّ، والذي بات يشكل رقمًا مزعجًا للولايات المُتَّحدة الأمريكيّة نفسها، لا سيّما بعدما أطلقت إيران أقمارًا اصطناعيّة على رؤوس تلك الصواريخ، ما يعني أنّه في الغد القريب يمكنها أن تحمل رؤوسًا نوويّة على تلك الصواريخ ولتُهدِّد العالمَ برُمَّتِه.
أثبتت التجربةُ خلال الأعوام الخمسة الماضية أنّ إيران تكذب كما تتنَفَّس، وأنّ كلَّ ما قالته عن عدم امتلاكها لبِنْيَة تحتيّة عسكريّة، عارٍ عن الصّحّة، فقد ثبت بالدليل القاطع لوكالة الطاقة الذرّيّة أنّ الإيرانيّين لديهم منشآت نوويّة وصاروخيّة تحت الأرض، أعلنوا هم عن بعضها قبلَ نهايةِ ولاية ترامب، وكأنّهم يستبقون بها ولايةَ بايدن، وتبدو منشأة "فوردو" واحدةً منها، وما يحدث هناك مثير وخطير لا سِيّما بعدما رفعتْ إيران مستوى التخصيب إلى نحو عشرين في المائة.
هل كلّ رجال بايدن على قلب رجل واحد تجاه مستقبل العلاقة مع إيران؟
يبدو أنّ هناك تباينًا في المواقف والتصريحات، فعلى سبيل المثال يرى بلينكن وزير الخارجيّة القادم أنّ إدارة بايدن مُستعِدّة للعودة إلى الاتّفاق النوويّ شرطَ أن تفي إيرانُ مجدَّدًا بالتزاماتها، ومن بينها مراجعة وضع البرنامج الصاروخيّ من جهة، وبقيّة الأنشطة المزعزِعة للاستقرار من جهة أخرى.
يُدرِك بلينكن أنّ الوقتَ الذي يَمُرّ هو في صالح إيران، ولهذا يقطع بأنّ إيران ستكون أكثر خطورةً مِمّا هي عليه الآن في حال امتلكتْ السلاح النوويّ أو أوشكتْ على تصنيعه.
هذا الحديث للرجل القريب جدًّا سابقًا من قلب إدارة هذا الملفّ في إدارة أوباما السابقة، يعرف من معلومات الاستخبارات الأمريكيّة أنّ الفترة الزمنيّة الأزمة لإنتاج إيران الموادَّ الانشطاريّة اللازمة لتصنيع السلاح النوويّ قد تَقَلَّصتْ إلى عِدّة شهور.
ما هو أقصى ما يمكن لإدارة بايدن في الوقت الراهن أن تصل إليه مع الملالي؟
الجواب عبر تقرير وكالة استخبارات الظلّ الأمريكيّة، مؤسّسة ستراتفور، وهو صفقة مُؤقّتة في غالب الأمر، تتضمّن تعليقًا أمريكيًّا لبعض العقوبات الماليّة على قطاع النفط الإيرانيّ، مقابل خفض إيران لأنشطتها النوويّة.
هل يعني ذلك زوالَ الخطر الإيرانيّ؟
الجواب عند وزير الدفاع الأمريكيّ الجديد، والذي تَمّ تثبيتُ تعيينه الجنرال "لويد أوستن"، خلال جلسة الاستماع لمناقشة التصديق على تعيينه؛ إذ اعتبر أنّ إيران لا تزال عنصرًا مزعزِعًا للاستقرار في المنطقة، وأنّه إذا حصلت إيرانُ على قدرة نوويّة في أيّ وقت، فسيكون التعاملُ معها بشأن أيّ مشكلة في المنطقة أكثرَ صعوبةً.
كسبت إيرانُ الوقتَ خلال السنوات الماضية، وأيّ صفقة جديدة مع الأمريكيّين، ستعطيهم مُتَّسعًا أكبر من الزمن لتعميق خبرتهم النوويّة والصاروخيّة، وعند أقرب سقوط للحجر السيزيفيّ الأمريكيّ، والمُتَوَقَّع جدًّا خلال إدارة بايدن، ربّما ستخرج إيران على العالم بسلاحها النوويّ كتحصيل حاصل لحيازتها التكنولوجيا العلميّة اللازمة لذلك، وربّما لن يكون في مقدرة العَمّ سام النهوضُ بالحجر من جديد.
ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟
أمران: الأول هو كيف يمكن لبعض القوى الشرق أوسطيّة، وإسرائيل تحديدًا التعاطي مع تأجيل المواجهة مع إيران، حال قرّرتْ إدارة بايدن إعطاء قبلة حياة جديدة لبرامج إيران النوويّة الصاروخيّة.
والثاني موصول بدفع بعض دول المنطقة دفعًا في طريق حيازة أسلحة شبيهة من باب أنّ خيرَ وسيلة للدفاع هو الهجوم.
المشهد الأمريكي الإيرانيّ في مبتدأه، لكنّه حتمًا مبتدأ الأوجاع، وبداية لآلام مخاض لا تحمل إشارات إيجابية في الحال أو الاستقبال القريب.